"وعندما اقترب من خيال يشبه فوّهة البئر استجمعَ قواه، وبآخر ما يملك من أنفاس نفخ في بوقه ثمّ خر مغشيًا عليه".
هكذا يرسم الروائيّ الليبي محمّد الأصفر، بحرفيّة ومهارة، في روايته الأخيرة "بوق" اللحظة الفاصلة في حياة الجندي كارل عازف البوق في الفرقة العسكريّة الألمانية، وهو يفرّ من المعركة ليسقط عند البئر وتبدأ حياته الأخرى من ألمانيا إلى ليبيا.
كارل، الفتى صاحب المزمار القادم من عالم الموسيقى بوجهيها المتنافرين: حيث تُعزَف حين يتقدم الجنود في الحرب، وتُعزَف لتشيّع القتلى. من أكثر المناطق ضبابيةً، حيث لا صوت إلا صوت المعركة، يشدّ الأصفر الحكاية من قلب المعركة، وتصير الموسيقى سيّدة الموقف، ويتقدّم السّرد ويتأخّر على إيقاعٍ ضاجّ تارةً وساكنٍ تارةً أخرى، وئيدِ وسريع.
استقرار اللغة، هدوؤها، ثباتُ الخيال، بلا تصنّع، بلا تكلّف، دون تحميل الأحداث أكثر ممّا ينبغي، ودون أن ينسلخ جلد الحوار عن عظم سرده، وعلى طولهما وعرضهما، يضربُ السّارد، في حالاته المتعددة، ضربات ايقاعيّة كعازف على آلة وتصبح السمفونية التاسعة لبيتهوفن، تلكَ التي يعزفها كارل، ملتقى حميميًا بينه وبين الراعية التي تصرّح له: "أغنامي وعنزاتي سعيدات بعزفك وضروعهنّ بعد سماع الموسيقى تكاد تتفجّر من وفرة الحليب".
هذا العالَم الرعويّ، الذي يتأرجح بين سيولة الموسيقى وجوهرها، في قلب حقبة تاريخية كان الكاتب شاهدًا عليها، يتلخّص في هذا التحليق الذي يحاول الأصفر أن يأخذنا عبره متنقلا بين مدن ألمانية ومدن ليبيّة وباحثًا عن حلقة الوصل االإنسانيّة بين البشر بعيدا عن الحرب، وفي قلب أجوائها.
الصحراء ذلك الفضاء المترامي الأطراف كان وما زال فضاء الحياة والموت معا. عرفناه ثيمة روائيّة برع في تسريدها إبراهيم الكوني الروائي الليبي الكبير عبر مدونّة ثريّة مثل “التبر” وغيرها. هنا يبرهن الأصفر أنّ ليس الكوني وحده من خبر الصحراء، وهنا يحيلنا المجاز، إلى ما يُقال دائما من أنّ لا أحد يتبجّج بمعرفته للصحراء، فهي كما البحر، لا أحد يدّعي صداقته ولا عداوته، غير أنّ هذا التدفّق والسلاسة العجيبة في النص يدلاّن بلا مواربة بأن الأصفر خبر الصحراء سرديّا على الأقلّ. إنّه الإيهام بالواقعيّة الذي تتبناه الرواية إلى الحدّ الذي يدفعك إلى الاعتقاد بأنّ السارد رافق بطل روايته خلال الأحداث. إنّه التمكّن من آليات القصّ عبر البحث في المعجم اللغوي الذي يتوافق مع فضاء السرد وروحه. عندما قرأت لأول مرّة الشيخ والبحر لم أشكّ لحظة في أنّ هامنغواي قد عاشر البحر، وها أنني أعتقد جازما بأنّ محمّد الأصفر مرّ يوما بالصحراء وتاه فيها….