لا يقلّ فنّ كتابة القصّة القصيرة عن الفنون القتاليّة التي تتطلّب حشدًا هائلاً من تقنيّات الهجوم والرّدع والدفاع إلى جانب ترويض النّفس وتثويرها وضبطها والتحكّم بها في قلب العمليّة القتاليّة لتصبح هي الأخرى جزءًا من مشهد فنيّ تحكمه أصوله الإبداعيّة بعيدًا عن الفوز والخسارة.
داخل هذه المعماريّة، تتطلّب كتابة القصّة حرفيّة عالية في التخطيط، التفكير، الممارسة والتطبيق، وتتوازن فيها المسافات السرديّة وفق حرص الكاتب ورؤيته وطرحه، وكلّما توازنت فيها المسافات بين الوحدات السرديّة وحافظ الكاتب على أصول هذه المعماريّة، تكوّن نصّ رياضيّ
يتّكىء نصّ "ميلاده" للكاتب عبد العزيز بركة ساكن على منطق سرديّ وجوديّ النزعة منذ البداية. فالمَشهد الواقعيّ يخالطه الإحساس بالتوتّر والترقّب للقاء مجهول بين الراوي وصاحبة الصّوت المشبوه. هذا الأنين، الذي يصل مسامع الراوي، ينفرد بالبطولة للحظات وعليه ينبني هيكل الحكاية، فهو أنين ينشطر بين تأويلات جنسيّة غريزيّة وحقيقة جسدٍ يبحث عن نجاة. مخاض سيفرز في نهاية المطاف كائنًا عجائبيًا يجسّد ميلادًا فانتاستيكيًا يحتفل به العالَم بنعيق الغربان وصرير الجرذان وثرثرات هلامية، وما إلى ذلك من توصيفات تمسّخ الصّورة المثلى التي ارتسمت في الذهن التقليديّ حول ميلاد المسيح. هذا الكائن القادم إلى العالَم أبعد عن المثاليّة، إنّه قادمٌ من أكثر اللحظات وجوديةً، وألمًا وسواداً ونفورًا يفصله عن الحميميّة تجاه الآخرين.. ليخرج حرًا طليقًا إلى الشّارع غير آبهٍ بمن خلفه.
في هذا النصّ القصصيّ القصير يتعانق حشدٌ من المعاني حول مجيء الإنسان وخلاصه، إنّه التحوّل في مفهوم الخلاص، حيث المخلّص لا يخلّص إلاّ نفسه، وحيث النّمط السّلوكيّ للرّضيع لا يمتّ صلةً إلى الواقع، وحيث تصبح حالة الغربة والاغتراب عن الآخرين منذ لحظة الولادة هي الحالة التي تكسب الشخصيّة هويتها.
هذا النصّ هو احتفال باللامألوف بصفته المألوف الإنسانيّ الطاغي اليوم،
5 thoughts on “ميلادُه”
Comments are closed.